سلسلة بناء أمة ...من دروس السيرة النبوية ( بدء الوحي ) للدكتور راغب السرجاني ( الحلقة 38)
بشارة ورقة للنبي بالرسالة:
ذهب الرسول هو وزوجته خديجة إلى ورقة بن نوفل، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، وكان قد تنصر في الجاهلية، وكان ورقة بن نوفل يعلم أن نبيناً سيظهر في هذا الزمان، وكان ينتظره.
ويدل على مدى الجرم الذي كان عليه أهل الكتاب، أنهم كانوا يعرفون من كتبهم أن الرسول حق، وليس فقط من كلام الرسول ، ولكن لم يؤمنوا،
لكن ورقة بن نوفل رحمه الله كان رجلاً صالحاً ورعاً، يعلم محمداً تاريخه وحياته وأخلاقه وصفاته، فلما سمع من رسول الله هذه القصة العجيبة التي حدثت في غار حراء، قال مباشرة ودون تردد: هذا الناموس -يقصد: جبريل عليه السلام- الذي أنزله الله عز وجل على موسى عليه السلام.
هنا يصرح ورقة بن نوفل بأمر خطير: أن هذا جبريل الذي كان ينزل على موسى عليه السلام، وجبريل لا ينزل إلا على الأنبياء.
إذاً: محمد رسول الله.
أريد منك أن تتصور معي الموقف: كم من الأحاسيس والمشاعر التي كانت تتداخل في صدر رسول الله وهو يسمع هذا الكلام؟ هل هذا حلم أم حقيقة؟ حق أم باطل؟ النبوة ليست مقاماً يصل إليه أحد بالاجتهاد في العبادة، أو بالطريقة الفلانية، النبوة اختيار من رب العالمين سبحانه وتعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:٧٥]،
تأمل معي موقف الرسول ﷺ وهو يسمع هذا الكلام من ورقة، أيكون الله عز وجل قد اختاره من بين كل الخلق ليكون نبي آخر الزمان؟! لكن المشكلة: أن الرجل الذي جاءه في الغار لم يخبره بذلك، لم يقل له: إنه رسول، لكن على الناحية الأخرى ورقة يتكلم بيقين وثقة وتأكيد.
ثم قال له ورقة: (يا ليتني فيها جذعاً -أي: شاباً- إذ يخرجك قومك، فقال له رسول متعجباً: أو مخرجي هم؟)،
لم يكن الرسول ، يعرف أي شيء عن الأمم السابقة وقصص الأنبياء ومعجزاتهم؛ لأن تفصيلات الأمم الماضية لا يمكن أن تعرف إلا عن طريق الوحي.
يقول الله: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:٤٩].
لم يكن يعرف قصص الأنبياء، وقصص التكذيب والمعاناة الشديدة التي عاشها الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه مع أقوامهم، من أجل ذلك قال الرسول ﷺ: (أو مخرجي هم؟)، لكن ورقة الحكيم العالم بقصص الأنبياء والمرسلين السابقين قال في يقين: (لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي).
وهذه قاعدة تخرج من فم ورقة بن نوفل رحمه الله قاعدة أصيلة لكل داعية: ما حمل داعية هذا الدين الذي جاء به رسول الله إلا عودي، سنة من سنن الله عز وجل: تدافع الحق والباطل، صراع بين الدين وأعداء الدين، سنة باقية إلى يوم القيامة.
اقرأ أيضا :سلسلة بناء أمة ...من دروس السيرة النبوية ( بدء الوحي ) للدكتور راغب السرجاني ( الحلقة 37)
ثم يقول ورقة: (وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً)، وورقة بن نوفل لم يدرك ذلك اليوم مع رسول الله، فقد مات بسرعة، وإن كان قد صدق برسول الله حتى قبل التصريح بالرسالة،
والرسول كما جاء في صحيح الحاكم بإسناد جيد يقول: (رأيت له جنة أو جنتين)، يعني: أنه من أهل الجنة إن شاء الله.
مات ورقة بن نوفل بعد أن سطر لرسول الله وللمؤمنين من بعده إلى يوم القيامة قاعدة أصيلة: (لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي)، فهذه رسالة إلى كل الدعاة، هذا هو الطريق.
فترة انقطاع الوحي:أراد الرسول أن يتيقن من النبوة؛ لذا أحب أن يأتي إليه جبريل مرة أخرى ليؤكد له أمر الرسالة، ويقول له ماذا يعمل، لكن حدث أمر غريب سبب قلقلاً كبيراً لرسول الله ،لقد فتر الوحي وتأخر،
وقد اختلف المؤرخون في الفترة التي فتر فيها الوحي، لكن أغلب الظن أنها كانت ما بين ثلاثة أيام إلى أربعين يوماً.
فمثل ذلك الانقطاع صدمة للرسول الله، فهو لم يتيقن بعد، ويريد أن يزيل عنه الشك، فقد كان يتوقع أنه عندما يرجع إلى الغار سيجد جبريل مرة أخرى، أو يأتي له في أي مكان آخر، لكن تأخر جبريل، وكان رسول الله يخرج مراراً إلى الجبال لعله يلتقي جبريل عليه السلام، وازداد شوق رسول الله إلى الرسالة التي يقول الله عنها: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:٥].
إن لم يكن الحامل لهذه الرسالة متشوقاً إليها فحملها سيكون صعباً جداً، بل لعله مستحيل، فارق كبير بين أن تبحث الدعوة عن رجل ليحملها، وبين أن يبحث الرجل عن الدعوة ليحملها! عندما كان الرسول ﷺ يبلغ به الحزن مبلغه يأتيه جبريل عليه السلام فيقول له: يا محمد إنك رسول الله حقاً، فيسكن رسول الله، ثم يختفي وهكذا إلى مجيء اليوم الذي سيبتدئ فيه الرسول ﷺ رحلة النبوة والتبليغ والتبشير والإنذار.
التسميات :
مقالات
سلسلة بناء أمة ...من دروس السيرة النبوية ( بدء الوحي ) للدكتور راغب السرجاني ( الحلقة 38)
Reviewed by Gharam elsawy
on
5:50 ص
Rating:

ليست هناك تعليقات: